في خضم الصراعات المستمرة التي يشهدها الشرق الأوسط، ولا سيما الشرق الأدنى، تقف المنطقة على أعتاب مرحلة جديدة من تاريخها. لقد مرت هذه الصراعات بتحولات عديدة، تأثرت بشكل مباشر بالتغيرات التي يشهدها الوضع العالمي في عصرنا الحالي. فالأزمة التي تعصف بالنظام الرأسمالي اليوم تتجلى في تراجع معدلات النمو الاقتصادي وتباطؤ حركة الأسواق، إلى جانب الأسباب السياسية والعسكرية والتاريخية التي تشكّل ما يُعرف بمشكلات الشرق الأوسط.
وتعكس المؤشرات الاقتصادية العالمية عمق هذه الأزمة. فعلى سبيل المثال، تراجع الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة من 2.4% في الربع الأخير من عام 2024 إلى 0.3% في الربع الأول من عام 2025، ما يُعد دليلاً واضحاً على تفاقم الأزمة. أما بقية دول العالم الرأسمالي، فوضعها الاقتصادي لا يختلف كثيرًا، بل قد يكون أسوأ في بعض المناطق.
رغم أن الولايات المتحدة — التي يمثلها دونالد ترامب — دعت في سیاستها الخارجیة إلى التهدئة وإنهاء الحرب في أوكرانيا، بالإضافة إلى إنهاء الصراعات في المناطق المتأزمة حول العالم، فإنها في الوقت ذاته شنّت أعنف هجوم باستخدام سلاح الحرب الاقتصادية والتجارية.
وتُعد السيطرة على الشرق الأوسط من أبرز أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة. وتسعى الولايات المتحدة إلى تحويل هذه المنطقة إلى مركز لقوتها الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية. ولا شك في الأهمية الجيوسياسية لهذه المنطقة بالنسبة للاقتصاد الرأسمالي العالمي وسعي تلك الدول للهيمنة متعددة الأوجه.
لا يزال الشرق الأوسط يحتفظ بموقعه كمصدر لأكثر من 40% من إنتاج النفط العالمي، وهي من أكبر مصادر إنتاج وتصدير الغاز الطبيعي في العالم. كما يشكّل سوقًا رئيسية لتصريف المنتجات الرأسمالية، ويضم ممرات مائية استراتيجية للتجارة بين الشرق والغرب. وإلى جانب ذلك، يُعد مصدرًا أساسيًا لرأس المال والاستثمار في الولايات المتحدة، فضلاً عن كونه وجهة استثمارية مهمة للشركات الأمريكية.
كل هذه العوامل تسهم في سعي الولايات المتحدة لفرض نفوذها الكامل على المنطقة، خصوصًا في ظل الجهود المتسارعة التي تبذلها الصين لتعزيز حضورها الإقليمي من خلال توسيع شبكاتها الاقتصادية والتجارية واستثماراتها الستراتيجية.
باختصار، فإن الحدّ من نفوذ الخصوم — كالصين وروسيا ودول أوروبا — وربط منطقة الشرق الأوسط بالولايات المتحدة بشکل متین يُعدّ توجّهًا استراتيجيًا جديدًا يهدف، إلى جانب تحقيق أهداف بعيدة المدى، إلى المساهمة في معالجة الأزمة الاقتصادية الأمريكية. أما دعم إسرائيل، فهو مجرد جانب واحد من هذه السياسة، في حين يتمثل الجانب الآخر في السعي إلى دمج الاقتصاد النشط في المنطقة ضمن المنظومة الاقتصادية الأمريكية، واحتكار مسارات النمو الاقتصادي والتجاري فیها.
وفي هذا السياق، تتداخل قضايا عديدة تُشكل محاور للصراع والتجاذب، من بينها موقع إسرائيل في المنطقة وعلاقاتها مع الدول العربية والإسلامية المجاورة لها، إضافة إلى ملفات الطاقة والنفط والغاز، ومشروعات مثل “خطة داود” و”طريق الحرير”، إلى جانب صعود الإسلام السياسي، ومستقبل القضية الفلسطينية وحقوق شعبها، فضلاً عن تطلعات شعوب المنطقة نحو الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، وتغيير شكل السلطة السياسية، وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان.
لكن تبقى المسألة الأهم هي مستقبل منطقة الشرق الأوسط، التي أنهكتها الصراعات، وسبل إعادة الاستقرار والسلام إليها، باعتبار ذلك شرطًا أساسيًا لدمجها بشكل فعّال في المنظومة الجيوسياسية والاقتصادية التي تخدم مصالح القوى الكبرى حاليًا ومستقبلًا. كل هذه العوامل تشكّل أركانًا أساسية في المعادلات الجديدة التي تُعيد تشكيل ملامح المنطقة.
إن ماأصبح واضحا حتى الآن هو حقيقة واحدة: لقد حققت الجبهة الأمريكية – الإسرائيلية انتصارا كبيرا منذ 7 أكتوبر 2023، ضد الطرف الأیراني والأسلام السیاسي الشیعي، وأصبح هذا الانتصار العسكري بوابة لمحاولة إعادة تعریف المعادلات السياسية والعسكرية للمنطقة بأكملها بشكل جذري.
أما فیما يخص مکانة ترکیا، فإن القوى المنتصرة — وعلى رأسها إسرائيل — لا تبدو بأنها مستعدة للسماح لترکیا بملأ الفراغ الذي خلّفته مشروع “جبهة المقاومة” التي كانت تقودها إيران وحلفاؤه، بحیث يقطف هذه المرة تیارالإسلام السیاسي بصیغتها السنیة – الإخوانیة ثمار الهزیمة التي حلت بایران.
ورغم أن الولايات المتحدة لا تمانع في منح تركيا دوراً ما کراع للقوى الإسلامية السنية في المنطقة ضمن مساعي إحلال الأمن والإستقرارفیها، فإنها في الوقت نفسه لا تنوي إعادة الاعتبار للدور الذي كانت تلعبه أنقرة سابقًا. فقد أثبتت التجربة أن سياسات الهيمنة والتدخلات التركية في دول مثل سوريا، ليبيا، العراق، السودان، وأرمينيا أدت إلى نتائج سلبية واضحة، وهو ما يثير التحفظات على استعادة هذا الدور.
ومن أجل خلق التوازن في مواجهة النفوذ التركي، تدعم كل من إسرائيل والولايات المتحدة استراتيجية جديدة تتضمن منح دول الخليج — السعودية، الإمارات، وقطر — دورًا قياديًا في رعاية التيار الإسلامي السني. ويُتوقّع أن تسهم هذه الدول في تعزيز مسار التطبيع مع إسرائيل، عبر دعم اتفاقيات إبراهيم وتوسيع نطاقها، بدلاً من وبتعاون مع تركيا.
في خضم هذه التفاعلات والصراعات، برزت “القضية الكردية” كملف سياسي ساخن، واحتلت موقعًا واضحًا على طاولات النقاش والمواقف الإقليمية والدولية. ولم تعد هذه القضية مجرد شأن داخلي، بل أصبحت إحدى القضايا الاستراتيجية المحورية التي قد تسهم في إعادة توجيه مسار الأحداث وتحديد مستقبل منطقة الشرق الأوسط برمّتها.
القضية الكردية كقضية إقليمية
تُعدّ القضية الكردية، مثلها مثل أي قضية سياسية أخرى، من الملفات البارزة التي ظهرت على مسرح الصراعات السياسية، وقد تباینت مکانتها بتباین طبيعة المرحلة الزمنية والسياق التاريخي الذي تمرّ به. ففي حرب الخليج عام 1991، برزت هذه القضية في العراق ضمن سياق الصراع بين الولايات المتحدة ونظام الحكم العراقي آنذاك، لتصبح أحد أبرز ملفات تلك المرحلة، وتتحول بفعل زخمها إلى بند دائم في أجندات الأطراف المتصارعة.
وقد شكلت تلك الحرب فرصة كبيرة مكّنت الشعب الكردي في العراق، من خلال الاستفادة من ظروف عسكرية وسياسية غیر مؤاتیة كانت تمرّ بها الحكومة العراقية، من إطلاق انتفاضة شعبية شاملة، مهدت في ما بعد لولادة إقليم كردستان.
لكن، وعلى خلاف مرحلة الحرب الأولى التي اقتصر فيها تناول القضية الكردية على الإطار الجغرافي–السياسي العراقي، فإن هذه القضية اليوم دخلت مرحلة جديدة، حيث تحولت إلى ملف إقليمي بإمتياز إذ فلم تعد محصورة في العراق ، بل باتت حاضرة بقوة في كل من تركيا، إيران، وسوريا، وأصبحت من القضايا المصيرية ذات الطابع الحاسم في رسم مستقبل المنطقة.
لقد فرضت هذه المسألة نفسها بقوة على المشهد السياسي، إلى درجة أن حتى القوى القومية المتطرفة — مثل حزب الحركة القومية في تركيا (MHP)— اضطرت إلى اتخاذ موقف منها، ولم يعد بإمكانها تجاهل واقع وجود هذه القضية السياسية أو إنكارها.
في المرحلة الراهنة، ومع تشابك العوامل والأطراف المنخرطة في صراعات اليوم، فإن ميزان القوة بين الشعب الكردي والدول التي تحتل كردستان، إلى جانب تباين القوة والاتجاهات داخل الحركات السياسية الکردستانیة نفسها، والتعقيدات والإستقطابات الجيوسياسية والإقليمية والدولية، كلها تظهر كعناصر متغيرة ومتباينة بشكل كبير.
فضلًا عن ذلك، فإن الأوضاع المحیطة بالقضية الكردية تتباین من دولة إلى أخرى — في تركيا، العراق، سوريا، وإيران — حيث تتمتع كل من هذه الدول بخصوصياتها وظروفها السياسية والاجتماعية الخاصة، كما أن لكل منها موقعًا مختلفًا ضمن المعادلات ومسرح الصراعات الشاملة في المنطقة.
من هنا، وعلى الرغم من الملامح المشتركة للقضية الكردية ضمن هذه الدول، فإننا بتنا في الوقت نفسه أمام فروقات وتمايزات كبيرة في طبيعة هذه القضية، ومدى تعقيدها، ومستوى تطورها في كل من تلك البلدان. إن الرؤية السياسية الواعية لا يمكنها أن تتجاهل لا الجوانب المشتركة ولا الاختلافات العميقة بين هذه الحالات.
ومع ذلك، ورغم هذه التمايزات والاختلافات، يمكننا النظر إلى القضية الكردية ضمن أطر الصراعات السياسية الحالية، واستعراضها وتحليلها ضمن عدد من المسارات أو الاتجاهات السياسية البارزة في المنطقة.
ويمكن تلخيص هذه الاتجاهات حاليًا كما يلي:
أولًا:
الشعب الكردي، بالإضافة إلى وجوده التاريخي والاجتماعي والثقافي على أرضه ووطنه الذي يُعرف باسم كردستان، يُعد وحدة اجتماعية وثقافية متجانسة، ويجب أن يُنظر إليه على قدم المساواة مع شعوب المنطقة كعامل لتعزيز الثقافة المشتركة والتعايش والمساواة والأخوّة بين شعوب المنطقة ومصيرهم المشترك.
ثانيا:
لم يعد من المقبول الصمت على الظلم والاضطهاد الذي يتعرض له هذا الشعب المسمی ” الكرد ” في المنطقة، ولم يعد من السهل على تلك الدول تمرير سياساتها بهذا الخصوص.
إن الاستمرار في ممارسة هذا الظلم والاضطهاد أدى إلى أن تصبح القضية الكردية عقدة سياسية وقانونية بيد السلطات السياسية في تلك الدول. فقد تمت ممارسة سياسات إنكار التنوع اللغوي والثقافي والفكري والقومي الكردي من خلال وسائل متعددة، مثل: التهجير القسري، حظر اللغة الكردية، الحظر القانوني لممارسة الاحتفال بالمناسبات والأعياد الثقافية، سياسات الإفقار والتهميش الاقتصادي والاجتماعي، منع النشاط السياسي وتأسيس الأحزاب والمنظمات الكردية، وحتى منع تسمية الأطفال بأسماء كردية، وحرمانهم من الوثائق الرسمية، إلى جانب ممارسات وصلت حد الإبادة الجماعية والقتل والتشريد والأنفال والتطهير العِرقي. كل هذه الانتهاكات مورست بشكل منظم وبالقوة والعنف ضد الفرد الكردي وشعب كردستان.
ومع ذلك، فإن ممارسة وتنفيذ هذه السياسات، سواء في الماضي أو الحاضر، لم ينجح في كسر إرادة الشعب الكردي أو القضاء على مطلبه في الحرية والمساواة وحقه المشروع في تقرير مصيره السياسي، وكذلك حقه في امتلاك كيانه المستقل. ولذلك، فإن تلك السياسات فشلت تدريجيًا، ولم تؤدي سياسة إنكار الوجود الاجتماعي والسياسي لكيان قومي باسم “الشعب الكردي” أو محو ثقافته وخصوصياته الفكرية واللغوية والثقافية إلی أية نتيجة، ولم تعد تتماشى مع متغيرات هذا العصر، ولا يمكن التستر عليها بسهولة.
ثالثا:
جرت ولأكثر من مئة عام، إتباع سياسة إنكار وجود وحقوق الشعب الكردي، وقمع مطالبه المشروعة وميزاته الثقافية المتعددة، من قبل الأنظمة والسلطات الحاكمة المختلفة في العراق وسوريا وتركيا وإيران، وكذلك من قبل الدول الغربية ودول أخرى في العالم. ورغم ذلك، لم تتمكن هذه السياسات من إزالة هذه المسألة من المسرح السياسي والحياة الاجتماعية في تلك الدول، بل على العكس، أصبحت اليوم أكثر حضورًا وعمقًا من أي وقت مضى في تاريخ هذه المنطقة. إن إستمرار تلك السياسات القديمة لم يعد ملائمًا، بل يؤدي إلى تعميق الأزمة في النظامين السياسي والاجتماعي لتلك الدول.
رابعا:
إن الشوفينية القومية لدى الأمم المسيطرة في العراق، وإيران، وسوريا، وتركيا تجاه الشعب الكردي والتي اتُبعت في مراحل مختلفة من قبل حكومات تلك الدول، قد فشلت اليوم، وأوصلت الأوضاع إلى مأزق كبير. فلا الخطاب السياسي الإسلامي، ولا التوجهات القومية في تلك البلدان، تمكنت خلال المئة عام الماضية من تقديم حل ديمقراطي وعادل وواقعي للقضية الكردية.
في العراق، ومن خلال التفاهم والتوافق السياسي بين القوى المختلفة المنتصرة بعد سقوط نظام البعث مع جملة من الأحزاب الکردستانیة، وبدفع من الولايات المتحدة التي كانت تملك القوة والسلطة بوصفها قوة إحتلال للعراق، تم تثبيت صيغة الاتحاد الفيدرالي في الدستور، وأصبح إقليم كردستان كيانًا سياسيًا معترفًا به.
ورغم أن الفيدرالية كانت من الممكن أن تكون خطوة مناسبة نحو فيدرالية وطنية شاملة، وحلًا سياسيًا جوهريًا وعادلًا للقضية الكردية، إلا أن دفعه بإتجاه فيدرالية ذات طابع قومي، أوصل الوضع إلى طريق مسدود، وأعاد القضية الكردية في العراق لتكون مجددًا جزءًا من مشهد الصراعات السياسية، وهذا يتطلب مراجعة جديدة وبحث عن حلول سياسية أكثر ملاءمة وواقعية.
خامسا:
باستثناء مرحلة المطالبة بالاستقلال في زمن حكم الشيخ محمود عام 1918، فإن معظم مراحل مقاومة ونضال الشعب الكردي من أجل الحرية وحقوقه، كانت قائمة على الإصرار على الديمقراطية، والنضال، والمصير المشترك بين الكرد وشعوب تلك الدول، وكانت تمثل التوجه السیاسي الرئيسي والجوهري داخل المجتمع الكردي.
كان النضال السياسي المشترك بين الكرد والعرب في العراق، خلال النصف الأول من القرن العشرين ضد الاستعمار البريطاني، ثم في ثورة 14 تموز 1958، وخلال مقاومة نظام البعث الفاشي بين 1968-2003، مثالًا على هذا التوجه. كذلك، كان النضال المشترك بين الكرد وشعوب إيران خلال الحرب العالمية الثانية، وعند تأسيس جمهورية كردستان في مهاباد، ومن ثم أثناء انتفاضة 1979، وعودتها بشكل أقوى من خلال شعار “المرأة، الحياة، الحرية”.
أما في تركيا، فإن نضال حزب العمال الكردستاني PKK المستمر من أجل الأخوّة والنضال المشترك بين الشعبين الكردي والتركي ضد الطورانية والشوفينية التركية، وفي سوريا، فإن مقاومة القوى الكردية الوطنية الديمقراطية لأكثر من عقد من الزمن ضد دكتاتورية النظام الأسدي العروبي، وضد الإرهاب الإسلامي، ومطالبتها بالديمقراطية والتعايش المشترك واللامركزية الديمقراطية كحل للقضية الكردية… كلها أمثلة ساطعة تؤكد بوضوح أن التیار المنادي بالتحرر والمساواة والهوية الوطنیة المشتركة كان نهجًا راسخًا لدى الشعب الكردي والحرکة الشعبیة في کردستان، رغم تاريخ مروع من الإبادة الجماعیة والأنفال ومحاولات محو الهوية الكردية من قبل حكومات تلك الدول، بالرغم من الدور التضلیلي التي مارستها القوی القومیة الکردیة ذي النزعة السلطویة.
سادسا:
حينما تعرّض النضال الوطني المشترك في تلك البلدان للإخفاق أو وصل إلى طريق مسدود، نتيجة تصاعد التوجهات والقوى القومية التركية والعربية والفارسية، سطّر الشعب الكردي تاريخًا طويلًا من النضال السياسي والمقاومة المتعددة الأشكال، في مواجهة السياسات القمعية والتطهیر العرقي وإنكار الحقوق من قبل حكومات كل واحدة من تلك الدول الأربع.
تعتبر مقاومة سیاسة التطهیرالقومي والإبادة الجماعیة حقا مشروعا للشعب الکردي كسائر شعوب العالم، مُعترف بها في القوانين والمواثيق الدولية، رغم أن المجتمع الدولي لم یول هذه المواثیق حقها حینما تعلق الأمر بالشعب الکردي.
ضمن هذا السياق من المقاومة والنضال الذي مارسه الشعب الكردي، برزت تیارات سياسية متنوعة في مراحل مختلفة، واعتلت مسرح السياسة والمقاومة. ولكن بسبب تنامي النزعات القومية، هيمنت القوى القومية على هذا النضال من خلال اللجوء إلى الكفاح المسلح بوصفه الشكل الرئيس للنضال، وتمكّنت من التحكم وتوجيه الحراك الكردي.
وعلاوة علی الطبيعة الفاشية لنظام البعث في العراق وقمعه لكل حراك سياسي، فقد أدى توجه الأحزاب الكردية نحو الكفاح المسلح إلى تقييد نطاق النضال السياسي للشعب الكردي وعسکرة الحياة السياسية بحیث باتت كل الحركات والتوجهات جزءا تابعا لهذه الحرکة المسلحة.
كما أن زعماء العشائر والآغوات والمشيخات والأسر التقلیدیة المتنفذة، وضمن توجهاتهم الدينية أو العقائدية، ومن خلال التبعیة للدول المجاورة استخدموا خطاب “الکردایتي _ أي القومجیة ” كوسيلة قومية محافظة، في مواجهة غيرهم، حیث تمکنوا وفي مراحل متعددة من تقويض أهداف النضال الشعبي الكردي من أجل المساواة والعدالة مع شعوب تلك الدول، وتحويله إلى خطاب قومي عدائي يعزز الانقسام بين الكرد وتلك الشعوب. إلا أن هذا التوجه السياسي لم يستطع حرف وتغییر مضمون النضال التحرري القائم على المساواة والأخوة والمصير المشترك مع شعوب المنطقة.
إن أبرز مثال للقوی الیمینیة والتقلیدیة ضمن الحرکة السیاسة في کردستان، يتمثل في تاريخ الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق ونظرائه في الدول الأربع، الذين سعوا إلی إثارة النعرات والأحقاد القومیة الضیقة بینما تزامن ذلك مع مساعیهم في عقد الصفقات المریبة ومواصلة عقد التحالفات مع السلطات والقوی والأطراف الشوفینیة والقومیة المعادیة للکرد في تلك الدول.
وفي الوقت الذي وقفت تلك الحرکة القومیة الکردیة ضد القوى التحررية التقدمیة الساعیة نحوالعدالة والتقدمية داخل كردستان والعراق، لم یتوانوا من جهة أخرى عن عقد صفقات وتفاهمات مع الدول المركزية المعادية للكرد.
سابعا:
لقد شهدت مجتمعات كردستان في العقود الماضية في الأجزاء الأربعة تحولات اجتماعية وفكرية وسياسية واقتصادية كبيرة وجذریة کما إرتقت فیها الحیاة السیاسیة أکثر من ذي قبل مما أدی إلی تبلور أشکال عدة من التنوع السیاسي والإقتصادي والإجتماعي والتناقضات الداخلیة في صفوف الکرد أنفسهم مقارنة بالمراحل التي سبقتها وبرزت علی المسرح المیول والتیارات المختلفة والمتصارعة جاعلة منها عنصرا جدیدا للحیاة السیاسیة علی صعید المنطقة ککل.
وقد أظهرت القوى السياسية التقليدية والقومية الكردية، بأحزابها وحركاتها وتجارِبها المتنوعة، أنها لم تكن فقط عاجزة عن تحقيق تطلعات الشعب الكردي في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة والرقي بعملیة إزدهارالإنسان والمجتمع الکردستاني، بل إنها – رغم عقود من تضحيات الشعب الکردي ومقاومته للأنظمة القمعية، وتوفر الظروف الذاتية والموضوعية علی الصعید الداخلي والخارجي في المنطقة – لم تستطع رفع الإضطهاد القومي علی کاهل الشعب الکردي.
وتؤكد التجربة الكردية في إقليم كردستان العراق خلال ٣٤ عامًا من الحكم الذاتي، أكثر من أي تجربة أخرى، هذا الواقع. فقد أفرزت تلك التجربة نموذجًا جديدًا من الظلم الكردي والكردستاني لم يختلف كثيرًا في جوهره عن ظلم النظام المركزي في العراق من حيث إحتکار ثروات البلاد لصالح نخبة حزبية وعائلية وشركاتهم، مقابل إفقار الغالبية العظمى من الناس، بینما تتکدس الثروات لدی حفنة محدودة من عوائل الاحزاب الحاكمة، وتأسيس نظام سياسي فاسد قائم على المحاصصة الحزبية، والذي أدى بدوره إلى تراجع دور الشعب في تقرير مصيره ومقدرات بلاده وفي المشاركة السياسية، وتم تهميشه بالكامل.
ولم يكن نضال الشعب الكردي لعشرات السنين في جنوب كردستان فقط من أجل استبدال نظام سلطوي مركزي بآخر محلي كردي مستبد وقمعي تحت اسم “حل القضية الكردية”.
وکمحصلة لکل ما جری ذکره أعلاه، فإن واقعًا سياسيًا جديدًا بدأ بالتشكل اليوم، وبدأت تغيرات تطرأ على مستوى المنطقة، وظهرت أرضية سياسية جديدة تتطلب رسم خارطة طريق جدية لحل القضية الكردية.
الحل الوطني والتقدمي للقضية الكردية
وبینما وصلت الحلول القومية والنزعات القومية باسم “الكردايتي-القومجیة الکردیة” إلى طريق مسدود بشتی صورها، مازالت القضية الكردية بحاجة إلى حل سياسي ومعالجة سليمة کما إنها أحوج ماتکون وأكثر من أي وقت مضى، إلى بديل وطني كردستاني، يقوم على تبنّي سياسة تحررية وتضامن مع الحركات التحررية في الدول المعنية.
في العراق، أصبحت هذه القضية اليوم أكثر بروزا، بل تحولت إلى ساحة للصراع والتجاذب السياسي.
صحيح أن الفيدرالية كانت إطارًا سياسيًا ودستوريًا وإنجازا ملائما لضمان حقوق الشعب الكردي في العراق، ولمحو آثار عقود طويلة من ظلم النظام البعثي الشوفيني العربي، إلا أن تثبيت وضع إقليم كردستان ككيان سياسي وطني ضمن العراق، كان يتطلب خطوات أخرى أوسع من أجل معالجة رواسب الاضطهاد القومي المتراكم ضد الأكراد في هذا البلد. ومن ضمن هذه الخطوات: تنفيذ المادة 140 من الدستور المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها، وتأسيس المجلس الإتحادي، إضافة إلى معالجة العديد من القضايا والمشكلات السياسية العالقة بين الإقليم والحكومة المركزية.
ورغم أن تثبیت النظام الفيدرالي(الإتحادي) والإقرار بإقليم كردستان ككيان معترف به دستوريًا باعتباره مكسبًا وطنیا، إلا أن القوى السياسية الدينية والقومية في العراق لم تقبله إلا على مضض، واعتبرته أمرًا واقعًا مفروضًا إثر الاحتلال الأمريكي حیث سعت تلك القوی إلى تقليص مضمونه الوطني والدستوري، ومنع تطوره إلى نموذج سياسي أكثر تقدما.
من جانبهم، فإن القوی القومیة الکردیة، وإن قبلوا بهذا الشكل من الحكم وعدّوه مكسبًا لهم، إلا أنهم وفي مجری سعیهم للإستحواذ على مزيد من السلطة، حاولوا تحويل الفيدرالية إلى شكل من أشكال “الكونفيدرالية الجزئية”، أي إلى أشکال من الإستقلال السیاسي أو صورة مشابهة لها من الإستقلال الذاتي. ونتيجةً لعدم قبول كلا الطرفين بشكل فعلي للفيدرالية، فإن الدولة العراقية لم تتحول إلى دولة فيدرالية حقيقية، حيث لم يتم حتى الآن تشكيل المجلس الفيدرالي، ولم يتم اعتماد الفيدرالية كشكل من أشكال التعايش السياسي والاجتماعي المشترك، كما هو الحال في كندا، الهند، بلجيكا، سويسرا وغيرها، بل تم تحريفها وتحويلها إلى شكل من أشكال الفيدرالية القومية، لا الفيدرالية الوطنية المشتركة.
في إقليم كردستان أيضًا، وبصفته كيانًا دستوريًا، لم يتم تأسيس حكم وطني بل تحوّل الإقليم في ظل هيمنة الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني كقوتين حاكمتين منذ عام 1991، ولاحقًا بعد عام 2003 إلى كيان حزبي بدلا من کیان وطني حيث تم تقسيمه إلى كانتونات حزبية، وتمت عملیة تقاسم السلطة ضمن ما يُعرف بالمناطق الصفراء والخضراء، وحتى مناطق دينية منفصلة. کما تم مسخ الهوية الوطنية أو تم تحويلها إلى تابعة للهويات الحزبية. وفي المحصلة النهائیة تم إختزال کل ذلك في احتكار السلطة من قبل الحزب والعوائل المتنفذة داخلهما لیس إلا. لقد إنبثقت هذه الصیغة من سلطة الأحزاب والعوائل المتنفذة القائمة منذ أكثر من 33 عامًا، علی أسس لاتمت بصلة بالأصول السیاسیة – الدستوریة. کما تم إفراغ كل المكتسبات الفيدرالية من مضمونها، وأصبحت وسيلة لتكريس التسلط الحزبي والعائلي واللهاث وراء المزید من الامتيازات والمكاسب على حساب الحكومة المركزية في بغداد.
وهکذا فإن الفيدرالية، التي كان من المفترض أن تكون إطارًا لمشاركة شعب كردستان في السلطة واتخاذ القرار السياسي وإدارة شؤونه داخل كردستان وعلى مستوى العراق، تم تحويلها من قبل هذه القوى الكردستانية إلى غطاء لتأسيس سلطة حزبية استبدادية وضيقة الأفق، على حساب القضية الكردية ومكتسبات شعب كردستان.
لقد باتت المكاسب السياسية والدستورية لشعب كردستان العراق في الوقت الراهن في مهب الریح بسبب هذه الصراعات والتجاذبات، وهي تواجه أخطارًا وتهديدات جدية. من هذا المنطلق، فإن الدفاع عن وجود هذا الكيان أصبح ضرورة سياسية، ويتوجب أن يُعاد تعريف الفيدرالية التي تم تثبيتها کإنجاز وكصيغة سياسية ودستورية لهذا الغرض، بغية تطويرها باتجاه فيدرالية وطنية، يضمن التعايش ويتجاوز النزعات القومية والتسلط القومي، على مستوى العراق كله، بعیدا عن کل الصیغ الإنعزالیة وإقصاء هذه القومیة أو تسلط تلك.
إننا نۆمن بقدرة شعب كردستان والعراق، والقوى السياسية الوطنية، والقوى السياسية التحررية والديمقراطية، في النضال من أجل ترسيخ وتعميق التعايش المشترك وإشاعة أسسه وضروراته ومبادئه، وكذلك من أجل تطوير الشراكة السياسية ضمن صيغة الفيدرالية الوطنية.
لا شك بان القضية الكردية والنضال ضد الاضطهاد القومي في كردستان تمثل بالنسبة لغالبیة شعب كردستان خطوة أولى نحو إقامة سلطة سياسية تضمن إنهاء هيمنة السلطة المركزية في كردستان وتسليم السلطة السياسية إلى شعب كردستان نفسه، الأمر الذي من شأنه أن يحقق أكبر عملية إصلاح وتغيير في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية.
إن عملیة القضاء علی الإضطهاد القومي لايمكن أن يكون ذا معنى بدون إعادة بناء كردستان على أساس المواطنة، وتكافؤ الفرص المتساویة للجميع، والمساواة بين المواطنين، وتحقيق إزدهار إقتصادي هدفه رفاهية الشعب، وضمان الحريات الفردية، وتأمين حقوق المرأة، وتوفير المتطلبات السياسية والقانونية لمشاركة الجمیع في القرار السياسي، وبناء نموذج متکامل للحکم الوطني التقدمي في إقليم كردستان.
لقد إنطلقت حركة الاحتجاج في إقليم كردستان منذ فترة طويلة، وعبرت المساعي الشعبیة محطات متعددة في هذا الاتجاه ولابد لها من ولوج مرحلة جدیدة من دخول الجماهير والناس البسطاء والفئات الشعبیة في كردستان معترك العمل إلى ميدان الفعل السياسي كقوة لها القدرة علی تقرير شؤونها في الحياة السياسية داخل كردستان، وتحديد مصيرهم مقابل السلطات المركزية.
ویتحتم علی هذا التیار ان یتبلور وفي مجری تعمقه، کحرکة سیاسیة متمایزة عن القوی القومیة التقلیدیة و تیارات الإسلام السیاسي، حاملة رایة مشروع إجتماعي و سیاسي مختلف، ضمن بدیل و نمط جدید من الحراك و العمل السیاسي علی مسرح النضال السیاسي. إننا نناضل بکل ما أوتینا من قوة وعزم یدا بید مع أکثریة الجماهیر المتطلعة للحریة من اجل تلك الأهداف.
ولا شك أن هذا هذه المساعي السیاسیة والإجتماعیة لاتجري بمعزل عن الحركة والنضال السياسي الوطني المشترك في عموم العراق.
یحظی التیار الوطني والتحرري في العراق بجذور وقوة راسختین یمتدان في أعماق الحياة السياسية والتاريخية لهذا البلد، لکنه ینبغي عدم الإستهانة بالروح الشوفينية والقومية التي لاتزال حاضرة في عقلية النخب السياسية الحاكمة في الإقليم وبغداد، والمدعومة من نظام إقليمي مناهض لطموحات الشعب الكردي.
لقد بینت تجربة الاستفتاء العام الذي أجراه شعب إقليم كردستان في عام 2017 استمرار العقلية الشوفينية لدى العديد من القوى السياسية القومية والإسلامية في العراق وكردستان، إذ لعبت عملیة الإنفراد بالقرار من قبل صناع مشروع الإستفتاء في کردستان دورها في إشاعة روح الشقاق وهدم کل جسور الحوار والتضامن بین الشعب الکردي والشعب العراقي عامة.
لم یتمتع لا الشعب الکردي ولا الشعب العربي بإستقلالیة القرار الحقیقي والمستقل أثناء تلك العملیة بل کانت الحیاة السیاسیة تنخرها أوبئة الطائفیة والنزعات المذهبیة والعرقیة التي سادت الأجواء السیاسیة في العراق منذ ٢٠٠٣ حیث شکل ذلك عنصرا رئیسیا في تکوین البیئة السیاسیة.
أما في سوريا أيضًا، فقد تمکنت القوى السياسية الكردستانية، بعد هزيمة تنظيم داعش والرجعیة الإسلامية، ومن خلال تجربة كوباني ومن بعدها تجربة روجافا، وبناء الإدارة الذاتية، ومنح حقوق وحريات النساء والحريات المدنية والحضارية، أن تطرح نفسها كقوة سياسية مختلفة عن التيارات القومية الكردية والإسلام السياسي التقليدي، وأصبحت قادرة على اتخاذ خطوات أكثر جدية لتعزيز حل سياسي ووطني شامل بعد سقوط نظام بشار الأسد، وذلك بدعم وتنسيق مع كل القوى الديمقراطية والتحررية الأخرى في سوريا.
في إيران، فقد تحوّل النضال الإجتماعي للشعب الكردي إلى محرّك رئيسي لحركة سياسية وطنية شاملة ضد القمع وسلطة الجمهورية الإسلامية الرجعية، وظهر ذلك بوضوح في انتفاضة “المرأة، الحياة، الحرية”، التي انطلقت شرارتها من كردستان إيران وتكررت في عدة محطات أخرى، وتطورت خلال موجة الإضرابات والاحتجاجات العامة في المدن، خاصة داخل كردستان الإيرانية.
وفي تركيا، فإن النضال من أجل الحرية والسلام ومناهضة دكتاتورية سلطة أردوغان وإستبدادها، وتطبيقه لنظام فاشي قومي وديني، قد وفر الأرضية لتقدم سياسي كبير لحزب الشعوب الديمقراطية وأمثاله في الانتخابات، وتأسيس البلديات، وتعزيز النضال السياسي الداخلي في مدن كردستان تركيا عبر طريق الديمقراطية والانفتاح، وتمهيد الطريق لحل سياسي للقضية الكردية.
إن کل ما تقدم أعلاه یۆکد بجلاء حقیقة قائمة لاتدحض ألا وهي بأننا قد تجاوزنا مرحلة الحلول السیاسیة التقلیدیة السابقة للقضیة الکردیة حیث تتسم المرحلة الراهنة بولوج فاعل سياسي جديد معترك العمل السیاسي في المجتمع الکردستاني. وتتشکل مکونات هذا الفاعل السیاسي الجدید من طبقات وفئات مختلفة کالشباب والمرأة والطلبة وسائر المضطهدين کالعمال وسکنة الأحیاء الشعبیة والمهمشة والجیل الناهض في المجتمع الکردستاني، وسائر المواطنین الکرد وکردستان الساعین والمتطلعین للعیش تحت رایة وطن وبلاد يضمن الکرامة والحریة والمساوة والرفاه لجمیع مواطنیه.
ومن أجل أن یتصدر هذا الفاعل السياسي الجديد المشهد السیاسي ولعب دور أكبر في هذه القضية، من الضروري في هذه المرحلة أن يظهر بحل واقعي وميداني وعملي لهذه القضية وأن يضع خارطة طريق صحيحة في برنامج عمله.
یعتبر نموذج النظام الفيدرالي الوطني واللامركزية في هذه المرحلة خارطة طريق ونمط مناسب للتعايش السياسي. کما تتطلب الفيدرالية الوطنية واللامركزية كأسلوب لمشاركة الشعب في السلطة (وليست نمط “شبه الكونفيدرالية” أو الفيدرالية القومية) درجة معینة من الإنفتاح وإقامة نموذج الديمقراطية التشاركية في مختلف مستویات النظام السیاسي.
کما إن صیغة مزیجة مطبقة من الفيدرالية مع اللامركزية ومنح الاخيرة للمدن وتطبيقها بشكل قاعدي وتبنيها دستوريا مع ضمانات تنفیذها عملیا سوف تمهد الطريق أمام الحكم الوطني وحضور الشعب ومشاركته في القرار السياسي وإدارة أجهزة المجتمع بسائر مستویاتها.
ومما لا شك فیه وفیما یتعلق بالقضیة الکردیة فإن أشكال اللامركزية، يجب ألا تتم مسخها عن طریق تسليم جميع السلطات والصلاحيات السياسية والقانونية لمجموعة من الأحزاب السياسية الكردستانية وإقامة نظام بيروقراطي وحكم حزبي وميليشياوي استبدادي علی شاکلة مایجري في إقليم كردستان إذ لم تشکل ذلك سوی تغيير فوقي علی ما کانت تتمتع بها الحكومات المركزية الاستبدادية من سلطات بسلطة محلية كردية دون أن يضمن ولو قسط ضئیل من مشاركة شعب كردستان في تحديد مصيره وفي السلطة السياسية الداخلية لكردستان. إن تفویض بعض الأحزاب السياسية الكردستانية كوكيل وممثل لشعب كردستان أمام الحكومة المركزية والمؤسسات الدولية ليس يتناقض مع الفيدرالية الوطنية وتعني إنتاج شكل آخر من الحكم الحزبي والاستبدادي وإلغاء إرادة الشعب كفاعل أول في الحياة الاجتماعية والسياسية.
نحو تحالف سیاسي إقلیمي لحل القضية الكردية
ان القضية الكردية في المنطقة والنضال الديمقراطي المشترك يضع مهمة خاصة على عاتق القوى التواقة الى الحرية والديمقراطية في العراق وسوريا وتركيا وإيران.
لاتزال مجتمعات الشرق الأوسط أمامها درب طويل نحو إقامة نظام ديمقراطي يكون فيه للمواطنين مكانة مركزية. فالأنظمة السیاسیة السائدة في البلدان الأربعة هي ذات طبیعة متفسخة وفاسدة، وهي أنظمة حکم بحاجة ماسة إلى إصلاح وتغيير جذري وعقبة كبيرة أمام انجاز ذلك، وتواجه کلها باشكال شتى الأستیاء الشعبي العارم. إن عملیة الإصلاح الشامل والعميق ليس مطلوباً فقط في هرم النظام السياسي وأسلوب الحكم، بل إن النموذج الديمقراطي القاعدي وسلطة الوحدات المحلية مثل البلديات والمحافظات والمجتمع المدني، هي جزء من عناصر ذلك النموذج الديمقراطي.
من هنا ترتبط القضية الكردية كإحدى قضايا الحرية والديمقراطية وسلطة الشعب والمشاركة في الحكم، مع الحركة الشعبية الشاملة في تلك البلدان. هکذا تصبح الحرکة التحرریة لشعب كردستان قوة دعم قویة لتلك الحركة الشاملة، مثلما تحظی حركة مناهضة الاضطهاد القومي لشعب كردستان بدعم كبير في كل تلك البلدان.
یعتبر التعايش المتساوي للمكونات العرقية والقومية المختلفة في العراق وتركيا وسوريا وإيران مهمة صعبة بدون انفتاح ديمقراطي واسع على مستوى النظام السياسي والسلطة. إن مجرد الإقرار الشکلي بوجود الكرد كشعب مختلف في تلك البلدان، وعلی الرغم من کونه الخطوة الأولى الضرورية لحل القضية الكردية ضمن إطار حزمة سياسية واضحة، إلا إنها غیر قادرة علی تحقيق المساواة وحل القضية والعقدة التي تم تعقیدها بشكل متزايد إثر عقود من إضطهاد الکرد وسلبهم أبسط حقوقهم.
إن حل القضیة الکردیة تتطلب في المرحلة الراهنة وعلی المستوی العام للمجتمع وفي الحیاة السیاسیة عامة نقد کل أشکال التشهیر وتجلیات الفکر الشوفیني القومي وحظره بصورة قانونیة وخاصة فی تعلقها بالقضیة الکردیة. فتسمية دستور سوريا في دستور البلاد بالجمهورية العربية السورية أو تعريف تركيا كبلد (الأتراك) على سبيل المثال، يظهر استمرار العوائق القانونية والفكرية والسياسية الكبيرة في تلك المجتمعات نحو إقامة نظام سياسي وطني متقدم وتطبيق مبدأ المواطنة وإمکانیة التعايش والمساواة بين الشعوب في تلك البلدان.
إننا هنا أمام اختلاف واضح من الناحية القانونية والدستورية بين المساواة بين المواطنين من أعراق وقوميات مختلفة ومعاملتهم كأفراد ومواطنين متساوين، وبین وجود قضیة سياسية خاصة تسمى بالقضية الكردية.
إضافة إلى ذلك، فان موقف القوى السياسية الكردستانية المشاركة في القضية الكردية عامل مؤثر آخر نحو جعل ملف القضية الكردية جزءاً من إعادة تصميم العلاقات السياسية الجديدة للمنطقة والحیلولة دون إستغلال القضية الكردية کأداة ضغط من قبل إسرائيل وأمريكا ضد هذا أو ذاك الطرف من أطراف الصراعات دون أن ینال الشعب الکردي مکسبا من وراء ذلك.
إننا وأمام تنامي أهمیة بروز القضية الكردية على المستوى الإقليمي، نشهد في الظرف الراهن مساعي حثیثة من قبل حكومات إيران وتركيا وسوريا من خلال منح مجموعة من الامتيازات الاقتصادية والدبلوماسية والسياسية لإسرائيل أو لأمريكا والتفاوض معهما في إطار مايسمى بالاتفاقيات إلابراهيمية وتمریر ذلك دون إجراء تغییر یذکر في نهجهم السیاسي تجاه القضية الكردية، أو في أفضل الحالات منح مجموعة من الامتيازات للقوى والأطراف اليمينية والقومية الكردية، على غرار تجربة إقليم كردستان العراق، وإجراء بعض الإصلاحات الشكلية والفارغة المضمون لطمس هذا الملف لمرحلة أخرى.
إلا إن التجارب التي خاضها الشعب الكردي في مواجهة الأنظمة القمعية والقوى السياسية الكردية الاستبدادية تحظی بأهمیة بالغة في هذا المجال. ان النضال والكفاح من أجل الحرية والديمقراطية والإصلاح في هذه البلدان لا ولن یکون لها قیمة فعلیة بدون مشاركة الشعب الكردي وحریته في خیاره السياسي ومصيره وكونه صاحب القرار في إطار نظام لامركزي حقيقي.
إن کیفیة التعامل مع قضية الشعب الكردي وحقوقه في هذه البلدان هو المقياس الأساسي ومحك تطور أو تراجع الديمقراطية وحقوق الإنسان والانفتاح السياسي وتطور النزعات الإنسانیة.
إن تنمیة النضال الوطني الشامل والتعايش السلمي وتطوير تجارب النضال المشترك لشعوب هذه المنطقة معاً يمكن أن يصبح أساساً وقاعدة سياسية مشتركة لتحالف سياسي جديد في المنطقة بوسعها تجاوز الصراع والحرب والقتال بين الأطراف السياسية التقليدية في كردستان.
وبالعكس من ذلك، فإن فصل هذين العنصرین من النضال السياسي عن بعضهما البعض في هذه البلدان، أي تعطیل عملية النضال ومصير الشعب المشترك والاستمرار في التخندق القومي والطائفي والمذهبي الضيق، هو ذلك الطريق المسدود الذي جربه شعوب هذه البلدان منذ عشرات السنين، وما إستمرار أزمات العلاقة بين السلطة المركزية وإقليم كردستان العراق إلا نموذج واضح یتبین من خلالها لیس فقط صعوبة حل المشاكل القائمة بل باتت الأسس القائمة للفیدرالیة والنمط الباهت للدیمقراطیة إیضا أمام أخطار محدقة وسائرة نحو مأزق أکید.
وفي حقیقة الأمر فان النضال من أجل الحل السلمي والوطني والديمقراطي للقضية الكردية بوسعها أن يصبح مركزاً للمقاومة والتضامن بين شعوب المنطقة ضد سیاسات الهيمنة والعسكرة والقمع والديكتاتورية. بإستطاعة الشعب الكردي كما أظهر ذلك مثال سوريا بوضوح، ومن خلال الإصرار على حقوقه القومية بطريقة جذرية ومتقدمة، أن يصبح مركزاً لتقوية نضال شعوب المنطقة لتحقيق الحرية والديمقراطية والمساواة الاجتماعية والاقتصادية وإقامة حكم سياسي وطني موحد.
ان الإصلاح في مجال الحكم المركزي وتطبيق الديمقراطية التشاركية وإجراء اللامركزية وقبولها كمفهوم سياسي ودستوري وديمقراطي والمشاركة الحقيقية للكرد في القرار السياسي للبلاد، تشکل أهم حلقات التغيير في هذه المرحلة.
وفي داخل كردستان أيضاً، فان الحاجة لإحياء وارساء حركة وطنية كردستانية حول مشروع سياسي واضح في هذه المرحلة يعتبر أهم حلقة في النضال السياسي. مشروع يكون مضمونه إنهاء الاضطهاد القومي ضد الكرد والاعتراف بشعب كردستان كشريك استراتيجي في الشرق الأوسط الجديد.
ومن جهة أخری، فان الحاجة إلى خطاب سياسي مشترك وموحد ووطني والإصرار المشترك على مفهوم ونظام اللامركزية الديمقراطية والشفافية السياسية بين القوى أمام الشعب والانفتاح السياسي وتعبئة شعب كردستان حولهما وتوفير جميع المتطلبات في هذا الصدد، يحظى بأهمية كبيرة في هذا المجال.
القضية الكردية وسياسة القوى العالمية العظمى
قامت الدول العظمى في العالم الرأسمالي بتقسيم المنطقة إلى مجموعة من الدول الجديدة التي تحولت بشكل تدريجي إلى دول قومية وشوفينية وغير ديمقراطية، کما كانت سببا رئيسيا لبقاء القضية الكردية دون حل في المنطقة.
وبينما واجه الشعب الكردي الإضطهاد المسلط علیه وانتهاك حقوقه بالنضال والمقاومة، ووصل في مراحل مختلفة إلى مستوى الانتفاضة والحرب الأهلية، وبدلاً من إيجاد الحل المناسب، صار الشعب الكردي كبش فداء من قبل القوى العالمية العظمى، وفي كثير من الأحيان استُخدمت القضیة الکردیة من قبل القوى السياسية التقليدية في كردستان في صراعات المنطقة كورقة سياسية في أيدي تلك القوى للضغط على دول المنطقة وإخضاعها لمصالحها.
لم یطرأ حتی یومنا تغییر جدي في السیاسة المتبعة منذ ١٠٠ عام في هذا المجال بل نمت موجة من النزعات الیمینیة وبرز علی السطح خطاب فاشي جدید کأرتداد للقیم السیاسیة والدیمقراطیة العریقة في الغرب. لم تکن التغیرات التي طرأت في السابق سوی نتیجة مباشرة لللإنتفاضات والنضالات التي قامت بها جماهیر کردستان والتي أحدثت تغییرات مهمة علی توازن القوی والصراعات التي کانت تجري وأرغمت المجتمع الدولي والقوی العالمیة للتعامل معها وأخذها بنظر الأعتبار حینما یحین أوان جرد حساب مصالحهم.
وإذا كان ثمة حديث الآن عن “الربيع الكردي”، فلابد لها أن يتحقق على يد فاعل سياسي كردي وطني، ولیس ضمن مخطط وتصميم أمريكي وإسرائيلي جديد للمنطقة.
ورغم أن أمريكا لم تكن من الناحیة التاریخیة ضمن القوی التي أرست سياسة ومخطط تقسيم المنطقة ضد الشعب الكردي، إلا أنها بدعمها لسياسة دول المنطقة وأنظمتها السياسية منذ الحرب العالمية الثانية، لعبت الدور الأساسي في بقاء القضية الكردية دون حل ودعم القوى والحركات القومية في المنطقة ضد الشعب الكردي.
وفي العراق لم یکن بوسع الولایات المتحدة تجاهل القضية الكردية إثر إندلاع إنتفاضة شعب کردستان عام١٩٩١، واضطرت لمصلحتها الخاصة إلى إدراج هذه القضية ضمن أجنداتها، حیث تم اعتماد صیغة الفيدرالية بعد عام 2003، إلا إنها (أي الولایات المتحدة) لم تکن من الناحیة العملیة تملك سياسة معتمدة ورؤية واضحة وصريحة حول القضية الكردية، سواء في العراق أو على مستوى المنطقة، بل تبنت في العراق نهجا قائما علی دعم سلطة بنیت رکائزها وفق الأسس القومیة والطائفیة وتأجیج الصراع والنزاعات وإستغلالها من أجل مصالحها الخاصة ودعم الکیان السیاسي في اقلیم کردستان التي بنیت وفق مبدأ المحاصصة الحزبیة بین الدیمقراطي الکردستاني والإتحاد الوطني الکردستاني وإرغام الشعب الکردي للخضوع لها.
وفي الوقت الذي تطرح الولایات المتحدة نفسها في منطقة الشرق الأوسط کمهندس لنظام جیو- سیاسي جدید وبینما تؤکد علی ضرورة خلو المنطقة من الإرهاب والحرب وإنعدام الإستقرار وأهمیة التعایش السلمي بین دولها في الوقت الراهن وإذا سلمنا جدلا بأن الخطاب المذکور یشکل رسالة طمأنة وأمان إلا إنها لازالت تترك العدید من الأسئلة دون جواب واضح، لأن تاريخ التدخل الأمريكي في القضية الكردية يثير الكثير من الشك والريبة ولیس التزامها بالدفاع عن حقوق الشعب الكردي ودعم نضالهم.
إن تغيير موقف أمريكا وحلفائها بشأن القضية الكردية والانتقال من الخطب الرنانة إلى التأكيد على الحلول والمشاريع الواضحة بشأن القضية الكردية ضمن عملیة إعادة البناء الجديد للشرق الأوسط تمر عبر سلسلة من التغیرات والصراعات والاتجاهات السياسية الداخلية في كردستان من جهة، ووضع تلك الدول الأربع التي لاتزال القضية الكردية قائمة فيها.
ومع تزايد الوعي السياسي وإدراك شعب كردستان لأهمية هذه المرحلة كعصر لإعادة تعريف التوازنات السياسية والاستراتيجية في المنطقة، وتأكيدهم على ضرورة حل القضية الكردية ضمن تلك العملية والاستفادة الصحيحة والتعاطي الدقیق مع الفرص والإمكانيات التي توفرها، فإن التغيير في مکانة القضية الكردية في السياسة الدولية وموقف أمريكا أيضاً سيصبح أكثر احتمالاً. وخیر مثال بهذا الصدد هي تجربة العراق في هذا المجال.
إن معیار التزام أمريكا وحلفائها بتعهداتها وبالديمقراطية وحقوق الإنسان وإقرار السلام والتعايش وحل المشاكل القديمة في منطقة الشرق الأوسط بالنسبة للشعب الكردي في إيران وتركيا وسوريا له معنى واحد: الالتزام بتنظيم استفتاء أو أي شكل آخر من الإستئناس برأي المواطنین الکرد حول كيفية الإنخراط والمشاركة السياسية للأكراد في السلطة المركزية وشكل الحل الفيدرالي واللامركزي للقضية الكردية في تلك الدول الثلاث.
مركز الحرية والحياة (ناوەندی ئازادی و ژیان)
بداية حزیران ٢٠٢٥
Leave a Comment
Your email address will not be published. Required fields are marked with *